تركيا والتحول السوري- فرص ومخاطر دور أنقرة في مستقبل سوريا.

لا تزال تفاصيل الدور التركي في دعم فصائل المعارضة السورية، والذي أفضى أخيرًا إلى سقوط نظام الرئيس بشار الأسد في كانون الأول/ديسمبر الماضي، غير واضحة المعالم تمامًا. ومع ذلك، فإن هذا الانتصار التاريخي للثورة السورية، الذي تحقق بعد صراع دام ثلاثة عشر عامًا، يعود إلى عوامل جوهرية، من بينها الدور المحوري الذي اضطلعت به تركيا في مسار هذا الصراع المرير.
فقد أسهم التدخل العسكري التركي المباشر في معترك الحرب السورية عام 2016 في خلق واقع معقد، أعيق معه النظام وحلفاؤه من تحقيق نصر حاسم وسريع، ومن القضاء على ما تبقى من قوى المعارضة المتمركزة في مناطق الشمال الغربي من البلاد.
علاوة على ذلك، تمكنت هيئة تحرير الشام، التي تدير حاليًا مناطق واسعة في سوريا، من تعزيز تجربتها الإدارية في إدلب، والتفرغ لبناء قدراتها العسكرية، وذلك بفضل اتفاقية خفض التصعيد الرابعة، التي شكلت لها حصنًا واقيًا من هجمات النظام وحلفائه.
شهدت السياسة التركية تجاه الملف السوري تحولات عديدة ومنعطفات حادة، وغلب عليها طابع التذبذب وعدم الاستقرار، حيث فرضت عليها تطورات الصراع المتسارعة منذ التدخل العسكري الروسي في منتصف العقد الماضي، مرورًا بالدعم الأمريكي لمشروع الإدارة الذاتية الكردية. ووصلت هذه التقلبات إلى ذروتها، حيث سعى الرئيس رجب طيب أردوغان، قبيل سقوط النظام ببضعة أشهر فقط، إلى استمالة بشار الأسد وإقناعه بضرورة المصالحة.
وعلى الرغم من كل ذلك، فقد عملت أنقرة على مدى عقد كامل من الزمن، وبشكل دؤوب، على صناعة فجر الثامن من ديسمبر/كانون الأول. وقد منحها هذا التحول الجذري فرصة سانحة لمعالجة التحديات الإستراتيجية المزمنة التي أفرزتها الحرب، مثل معضلة الوحدات الكردية وقضية اللاجئين السوريين المتواجدين على أراضيها.
ويسود اعتقاد راسخ في الأوساط السورية والدولية بأن تركيا هي الطرف الأوفر حظًا والأكثر استفادة من هذا التحول الدراماتيكي، وأنها ستلعب دورًا محوريًا في تشكيل نظام سياسي جديد في دمشق، يكون مواليًا لها. ولكن هذا الوضع لا ينبغي أن يدفع أنقرة إلى التراخي والغرور، أو الاعتقاد بأنها قد ضمنت لنفسها مكانة متميزة في سوريا لعقود قادمة.
إن الجزء الأكبر من المكاسب المتوقعة لتركيا من التحول السوري، يتوقف بشكل أساسي على نجاح هذا التحول؛ لأن أي إخفاق أو تعثر فيه، سينعكس سلبًا على أنقرة، ويتحول إلى مشكلة جيوسياسية كبرى ومعقدة. ويبدو أن الرئيس أردوغان يدرك جيدًا حجم الفرص والمخاطر المترتبة على هذا التحول، ويتعامل معها بواقعية وحذر، من خلال تحديد أولويات بلاده في سوريا ما بعد التحول.
وتتمثل هذه الأولويات في تهيئة الظروف الملائمة لتحقيق انتقال سلس وناجح للسلطة في سوريا، إلى نظام منتخب يعبر عن تطلعات وآمال جميع السوريين بمختلف انتماءاتهم الطائفية والعرقية، والتعاون الوثيق مع دمشق من أجل استعادة سيادتها الكاملة على كافة أراضيها، بما في ذلك الجيب الذي تسيطر عليه الوحدات الكردية في شمال شرق البلاد، والتعبير عن تطلعات ومصالح السوريين في المحافل الدولية، من خلال حث دول العالم على التعامل الإيجابي مع الإدارة الجديدة، ورفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا.
كما تبدي أنقرة رغبة جادة في إشراك دول المنطقة، وخاصة دول الخليج الثرية، في دعم عملية التحول السوري؛ لأنه بدون إعادة إعمار شاملة تتطلب تمويلًا ضخمًا، لن تتمكن سوريا من التعافي السريع من آثار الحرب المدمرة، ولن تتوفر الظروف الاقتصادية المواتية لإنجاح عملية التحول، وتحفيز اللاجئين السوريين في تركيا ودول الجوار على العودة الطوعية إلى وطنهم.
وتعتبر صياغة علاقة متينة وقوية مع الإدارة السورية الجديدة، دليلًا قاطعًا على الأهمية القصوى التي توليها أنقرة لتعزيز نفوذها في تشكيل مستقبل سوريا.
ومع ذلك، فإن اهتمام أحمد الشرع بإقامة علاقات ودية ومتينة مع الدول العربية، وخاصة المملكة العربية السعودية، يشير إلى أن دمشق ترغب في تنويع شراكاتها الإستراتيجية مع دول المنطقة وعدم حصرها في تركيا فقط.
ويبدو هذا التوجه واقعيًا ومنطقيًا، لأن الجغرافيا السياسية تفرض على سوريا هذا التوازن الدقيق، ولأن التكاليف الباهظة لإعادة الإعمار تتطلب انخراطًا دوليًا واسع النطاق، وخاصة من جانب دول الخليج الغنية في هذه العملية الحيوية. وسيتعين على أنقرة دعم هذا التوجه لدى الحكام الجدد في سوريا، لطمأنة دول المنطقة بأن سوريا الجديدة لن تكون تحت الوصاية التركية بأي شكل من الأشكال.
وعلاوة على ذلك، فإن تفكيك العقوبات الغربية المفروضة على سوريا يتطلب من أنقرة تركيز جهودها الدبلوماسية مع الغرب، للوصول إلى هذا الهدف المنشود. وتبرز معضلة الوحدات الكردية كعقبة رئيسية أمام أنقرة للعب هذا الدور بفعالية. لكن الدبلوماسية البناءة والإيجابية مع واشنطن يمكن أن تزيل هذه العقبة، وتساعد في معالجة هواجس تركيا ومخاوفها من الوحدات الكردية، دون اللجوء إلى تحركات عسكرية جديدة، قد تضيف تحديات أخرى جمة على مسار التحول السوري الهش.
إلى جانب ذلك، فإن التحول السوري يحمل في طياته تحديًا آخر كبيرًا لتركيا، لا يقل أهمية عن الفرص المتاحة. ويتمثل هذا التحدي في الانخراط الإيجابي والفعال في توجيه عملية التحول، لضمان تحقيق انتقال سياسي حقيقي ووفقًا للمعايير التي يجمع عليها المجتمع الدولي.
إن تأكيد أنقرة المستمر على الحاجة لتشكيل حكومة انتقالية شاملة، تضمن حقوق جميع المكونات السورية، يعبر عن النوايا الحسنة، ولكنه يشكل أيضًا حاجة ملحة لتركيا بقدر ما هو حاجة لسوريا. وسيتعين على أنقرة ممارسة نفوذها على الإدارة الجديدة، لتشجيعها على ترجمة تعهداتها بخصوص الانتقال الشامل إلى أفعال ملموسة على أرض الواقع.
وفي الوقت الذي يجب فيه على العالم دعم التحول السوري وعدم التدخل السافر فيه، فإن النهج الذي ستتبعه أنقرة في الفترة المقبلة يكتسب أهمية بالغة بهذا الخصوص؛ لأنه يمكن أن يعمل كضامن للحد من التدخلات الدولية السلبية في مسار التحول الديمقراطي.
وفي ضوء ذلك، فإن الكيفية التي ستتصرف بها تركيا في سوريا ستكون محط مراقبة دولية دقيقة ومستمرة. ويمكن لأنقرة أن تعظم من فرص نجاح نهجها من خلال التأكيد المستمر للإدارة السورية الجديدة، بأن انفتاح العالم عليها وكسر عزلة سوريا الدولية، يتطلبان تحقيق الحد الأقصى من التصور الدولي الإيجابي لعملية التحول السياسي.
أخيرًا، يقدم التحول السوري فرصة ذهبية لتركيا لتحقيق قصة نجاح إقليمية باهرة. وسيكون لمثل هذا النجاح فوائد جيوسياسية جمة لأنقرة، لا تقتصر على تعزيز دورها ومكانتها في سوريا الجديدة فحسب، بل ستنعكس إيجابًا على مكانتها وصورتها في المنطقة والعالم، كقوة إقليمية صاعدة قادرة على تعزيز الاستقرار والسلام في الشرق الأوسط الجديد، والاضطلاع بدور الوسيط النزيه والقوة الدافعة نحو التنمية والازدهار.